مهمة إطعام أمة في الصحراء
تحتل دولة قطر المرتبة الأولى في العالم العربي من حيث الأمن الغذائي، على الرغم من اعتمادها بالكامل تقريباً على الواردات. كيف تحقق ذلك؟ الإجابة هي من خلال الخدمات اللوجستية.
يقول رنجيف منون، الرئيس التنفيذي للمجموعة في GWC التي تُعد المزوّد الرائد للخدمات اللوجستية في قطر: «إن التصور السائد حول منطقة الشرق الأوسط على أنها بيئة صحراوية قاحلة هو تصور صحيح». تتفاوت التقديرات حول كمية المواد الغذائية التي تستوردها قطر، لكنها في حدود 80% إلى 90%.
ومع ذلك، وعلى الرغم من وصول سلاسل التوريد العالمية إلى نقطة الانهيار، تحتفظ شبه جزيرة قطر بمكانتها في المرتبة 24 عالمياً على مؤشر الأمن الغذائي العالمي الصادر عن مجلة «الإيكونوميست»، ما يجعلها الدولة الأولى في العالم العربي من حيث الأمن الغذائي لتتفوق بذلك على أستراليا واليونان والصين.
كيف لدولة تعتمد اعتماداً كبيراً على الواردات أن تتفوق على أهم الاقتصادات الزراعية من حيث الأمن الغذائي؟ الإجابة تكمن في الخدمات اللوجستية.
الحفاظ على سلسلة التبريد
من العوامل الرئيسية الداعمة للأمن الغذائي في قطر هي سلسلة التبريد، التي تتمثل في الحفاظ على رابط غير منقطع للتخزين المبرد والمجمد بدءاً من نقطة منشأ الشحنة حتى وجهتها النهائية في أحد المطاعم أو المتاجر.
تُعد الخدمات اللوجستية في سلسلة التبريد بمثابة شريان الحياة للإمدادات الغذائية العالمية، ولكن أهميتها تتضاعف في قطر حيث تصل الحرارة إلى أكثر من 50 درجة مئوية. تحتوي مستودعات شركة GWC على مرافق تبريد للحفاظ على درجة حرارة تبلغ 25 درجة مئوية تحت الصفر مع درجة حرارة محيطة تزيد عن 25 درجة مئوية. كما تتوفر في جميع المستودعات مصادر طاقة ثانوية، في حال تعطلت الشبكة الوطنية المتينة. حتى أن المستودعات تستخدم ملاقف الهواء، وهو عبارة عن إنجاز رائع أتت به الهندسة الفارسية القديمة، من أجل التحكم في تدفق الهواء، ما يحافظ على درجات حرارة داخلية تصل إلى 20 درجة مئوية أقل من حرارة الصيف الحارق في الخارج.
يمنح هذا التحكم الدقيق في درجة الحرارة شركة GWC المرونة الكافية لتوفير الفاكهة والألبان الطازجة للمتاجر الكبيرة، وشطائر اللحم البقري لمطاعم ماكدونالدز، والمحار الطازج لمطعم غوردون رامزي في أحد فنادق سانت ريجيس. يبقى الاختلاف الوحيد في التوقيت؛ فمن الممكن الاحتفاظ بالبطاطس المقلية المخصصة لمطاعم برجر كنج لمدة شهر، ولكن المحار المخصص لمطعم غوردون رامزي سيُقدم إلى الزبائن بعد 12 ساعة من اصطياده قبالة الساحل الإنجليزي.
الدقة في التخطيط
هذا المزيج الفعال من البنية التحتية المرنة والتخطيط الدقيق هو ما يضمن توفير الغذاء لدولة قطر حتى عند اشتداد الأزمة. فقد كان قسم كبير من الإمدادات الغذائية يصل إلى دولة قطر براً عبر الحدود من دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. لكن هذه الطرق انقطعت خلال الأزمة الدبلوماسية عام 2017، حين علّقت بعض دول مجلس التعاون الخليجي حركتها التجارية مع دولة قطر.
نفذت شركة GWC أكثر من 400 عملية شحن جوي في الشهر الأول من الأزمة، كونها تتولى مسؤولية إبقاء رفوف المتاجر مليئة بالبضائع. وتمكنت الشركة بفضل الميناء البحري الموسّع حديثاً، من توجيه خطوط الشحن إلى آسيا وأوروبا وشبه القارة الهندية.
يعترف منون: «لقد كانت فترة مليئة بالتحديات، ولكنها سمحت لنا بالاستعداد لمواجهة جائحة كورونا». دفعت الأزمة بالتحول الدائم نحو قاعدة إمدادات غذائية متنوعة نجحت في الحفاظ على صلابتها حتى عندما تعثرت سلاسل التوريد العالمية.
ولم يقتصر الأمر على الحفاظ على مخزون المتاجر، بل كان من المهم أيضاً إدارة الإمدادات الموجودة في مستودعات الشركة بشكل دقيق. يقول منون: «إننا نطبق منهجية تسليم المنتجات بحسب تاريخ انتهاء الصلاحية»، ما يعني أن المنتجات الأقرب إلى تاريخ انتهاء صلاحيتها تحصل على أولوية التسليم، ما يقلّل من الهدر ويسمح باستخدام الإمدادات إلى أقصى حد. ولم تكن هذه العملية ممكنة لولا اعتماد الشركة التام على التكنولوجيا، واستخدامها برنامجاً دقيقاً لإدارة المستودعات يقوم بتتبّع كل عنصر غذائي، ونطاق درجة الحرارة الذي يتطلبه، وتاريخ انتهاء صلاحيته.
صرامة معايير السلامة
يوضح منون: «تتبنّى شركة GWC نهجاً موحداً لضمان سلامة الأغذية وجودتها. ونفتخر بأن نكون المزود الأول في قطر الذي يحصل على شهادة ISO 22000 الدولية لنظام إدارة سلامة الأغذية».
تعتمد الشركة نظاماً للتحكّم في الوصول يضمن توفير إمكانية الوصول إلى المرافق للموظفين المعنيين دون سواهم. وتنفّذ تدريبات منتظمة في عمليات تتبّع المنتجات وسحبها من السوق. كما يتم تدريب جميع الموظفين على الالتزام بالمعايير الدولية الخاصة بتحضير الغذاء. وتجري بانتظام عمليات تدقيق لنظام إدارة الصحة والسلامة. وتُستخدم تقنية جديدة لتنبيه مديري المستودعات إلى أي تقلبات غير متوقعة في درجات الحرارة منعاً لإفساد الأغذية.
دفعت الجائحة شركة GWC إلى زيادة صرامة المعايير التي تعتمدها. يقول منون: «لقد علّمنا فيروس كورونا العديد من الممارسات الجديدة المتعلقة بالنظافة»، ويشرح أن الإجراءات الاحترازية باتت مشددة لدرجة أنها تضمن سلامة العمال وصحتهم حتى في منازلهم.
مستقبل الأمن الغذائي
تشكل هذه العمليات كلها جزءاً لا يتجزأ من رؤية قطر الوطنية 2030، التي توضح أهداف الدولة لتحقيق الاستقلالية في الغذاء، بما في ذلك تعزيز الإنتاج المحلي باستخدام حلول عالية التقنية للزراعة في الأراضي الصحراوية. وبحسب منون تعمل شركة GWC جاهدة «لضمان أن الأغذية المنتجة في قطر لن تضيع في أي مرحلة من مراحل سلسلة التوريد».
لكن دولة قطر ستشهد اختباراً أصعب في نوفمبر مع استضافتها كأس العالم لكرة القدم 2022. ومن المتوقع أن يزداد عدد السكان مؤقتاً من 3 ملايين شخص تقريباً إلى حوالى 4 ملايين شخص، يحتاج جميعهم إلى الغذاء. وفي هذا السياق، يؤكد منون: «لقد عملنا على زيادة كفاءاتنا التشغيلية وتعزيز قدرتنا على مدى سنوات عدة من أجل ضمان توصيل الطعام والشراب للجميع».
سيكون هذا الحدث إثباتاً حقيقياً لكفاءة سلاسل الإمداد المتنوعة ودقة التخطيط وصرامة معايير السلامة التي حافظت على الإمدادات الغذائية في قطر خلال أزمة دبلوماسية إقليمية وفي ظل جائحة عالمية. إذا تمكنت دولة قطر من تحمّل نمو سكاني بنسبة 33%، فلا شك في أن مستقبلها آمن.